كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فقال بشر: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءكم إنما يتكلم ويخطب لينسي خصمه حجته ويشغله بغيرها، ولولا بسط أمير المؤمنين إياه لم يقدر يدير لسانه في فمه ولَكِنت ظاهرا عليه، ثم أقبل بشر علي وقال: لو خطبت إلى غد ما تركت مطالبتك بما قلت فدع عنك الهذيان وأقبل علي. قال عبد العزيز: فقلت له: تكلم بما شئت حتى أجيبك. فقال بشر: تعبد الله الخلق أن يعرفوا الموصل والمفصل وما يضر الخلق أن لا يعرفوا ذلك ولا يتعلمونه. فقال له المأمون: قد رجعنا إلى الكلام الأول.
فقال بشر: أدهشني بكلامه وخطبه عن تمام الكلام في هذا وهو يتوهم أنه كسر قولي بهذا المفصل والموصل الذي لا يحتاج إلى معرفته ولا يطالب أحد به.
قال عبد العزيز: فقلت لبشر بل قد تعبد الله الخلق أن يعرفوا ذلك ويتعلمونه لئلا يصلوا ما فصل الله ويفصلوا ما وصل الله عز وجل.
قال: ما الحجة في ذلك والدليل على صدق قولك.
قال عبد العزيز: فقلت له أما سمعت ما قرأت عليك من كتاب الله وما تلوت عليك من الآيات المحكمات فيمن وصل ما أمر الله به أن يوصل ومن قطع ما أمر الله به أن يوصل وما وعد الله هؤلاء من حسنى وعقبى الدار، وما توعد الله به هؤلاء من اللعنة والعذاب وسوء الدار.
فقال بشر: دع ذكر ما مضى فمالك فيه حجة واحتج الساعة بشيء أفهمه.
قال عبد العزيز: فقلت له صدقت أنك ما فهمت ما مضى ولو فهمت ما قلت ما قلت، وأقبلت على المأمون فقلت: يا أمير المؤمنين إن في بعض ما مضى لكفآية وبلاغ ولَكِن بشر يزعم أنه لم يفهم شيئا مما مضى وأنا أتكلم في ذكر المفصل والموصل من القرآن وأحتج للعرب في صحة لغاتها ومذاهبها في كلامها وخطابها.
قال عبد العزيز: فقال المأمون: إن كان بشر لم يفهم ما مضى فكذلك لا يفهم إعادة ما يأتي فدع إعادة شيء قد مضى وظهرت لك الحجة فيه فإن هذا وقت الصلاة.
فقلت يا أمير المؤمنين إن رأيت أن تأذن لي أن أتكلم بشيء لم أتكلم به في هذا المعنى أقيم به الحجة على بشر وأرجو أن يستحسنه أمير المؤمنين أطال الله بقاءه من غير إطالة الكلام. فقال: تكلم وأوجز.
قال عبد العزيز: فأقبلت على بشر فقلت: زعمت يا بشر إن الله لم يتعبد الخلق بمعرفة الموصل والمفصل فمن زاد فيه شيئا أو نقص منه كان كافرًا. قال بشر: ما قلت هذا يا أمير المؤمنين وهو يدعيه علي.
فقلت له: اخبرني عمن قال إن الله عز وجل لم يتعبد الخلق بمعرفة شيء، من هذا أو غيره أو زاد فيه أو نقصه كان كافرًا، أيكون صادقا أو كاذبا؟ فقال: كاذبا وإنما أقول كل شيء إذا زيد فيه أو نقص منه أو غير عما هو عليه كان فاعل ذلك كافرا لأن الله تعبد الخلق بمعرفته وعلمه.
فقلت له: قد وافقتني وأجبت نفسك عني وأقررت بما أنكرت.
فقال بشر: دع الكلام والتشبيه عنك وأقم الشاهد والدليل على ما تقول قال عبد العزيز فقلت له: قال الله عز وجل: {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فأخبر الله عز وجل أنه لا إله إلا هو وشهد بذلك لنفسه وشهدت له الملائكة وأولو العلم بمثل ذلك فلو قال رجل شهد الله أنه لا إله وقطع الكلام والصلة عامداً كان كافراً حلال الدم لأنه أعظم على الله عز وجل الفرية وأبطل الربوبية وجحد أن يكون الله تعالى الها واستشهد ملائكته وأولو العلم على قوله، فإذا وصل الكلمة كما وصلها الله عز وجل فقال: شهد الله أنه لا إله هو والملائكة وأولو العلم كان صادقا وكان قد قال ما قال الله عز وجل وشهد به لنفسه وشهدت به الملائكة وأولو العلم وكذلك قوله تعالى: {اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} وكذلك كل ما في القرآن من التهليل فعلى هذا المعنى من فصله من صلته وزاد فيه أو نقص منه كان كافراً، وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} لو أن رجلا قال: إن الله لا يستحيي وقطع الكلام عامدًا كان كافرا لأنه زعم أن الله لا يستحيي، ومن قال هذا فقد أعظم الفرية إذ أخبر عن الله أنه أخبر عن نفسه أنه لا يستحيي فقد كفر وحل دمه بقوله هذا وكذلك قوله في سورة الأحزاب: {وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} فلو قال رجل: والله لا يستحيي وقطع الصلة عامدا كان كافرا حتى يصل ما وصل الله في الحرفين فيقول في الأول أن يضرب مثلا ويقول في الآخر من الحق فيكون قد وصل ما وصل الله ولم يقطعه وإن لم يصله كان كافرا حلال الدم، وقال الله عز وجل: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} فلو قال رجل: وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها وقطع الصلة عامدا كان كافرا حلال الدم لأنه زعم أن الله لا يعلم الغيب، ومن زعم هذا فقد رد خبر الله عز وجل ورد قول الله عز وجل بشهادته لنفسه بعلم الغيب بقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} وقوله عز وجل: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأرض إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} فمن قال إن الله لا يعلم الغيب فقد كفر وحل دمه، فإذا وصل ما وصل الله عز وجل ولم يقطعه فقال: وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو كان صادقا وكان قد قال ما قال الله عز وجل ووصل ما وصل الله عز وجل ومثل هذا في القرآن كثير.
قال المأمون: أحسنت يا عبد العزيز، قال عبد العزيز فقلت لبشر: استمع لما في مسألتك. فقال بشر: هاته، قال عبد العزيز وأما المفصل الذي لا يجوز صلته فقول الله عز وجل: {لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ} هاهنا تم الكلام ثم يبتدي القاري فيقول: {وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فلو قال رجل للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله قطع الكلام عامدا كان كافرا حلال الدم لأنه زعم أن لله مثل السوء وشبهه جل ذكره بالذين لا يؤمنون بالآخرة وأدخله معهم في المثل السوء، فإذا فصل الكلام كما فصله الله ولم يصله بما لم يصله الله به فقال: للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء وقطع الكلام كان صادقاً وكان قد وقف على تمام الكلام وفصل ما فصل الله عز وجل ولم يصل ما فصل الله قال الله عز وجل: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى} هاهنا تم الكلام ثم يبتدي القاري فيقرأ: {وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا} فلو قال رجل: وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله وقطععامدا كان كافرا حلال الدم لأنه قد أعظم الفرية على الله عز وجل وزعم أن الله قد أخبر أن كلمته سفلى مع كلمة الذين كفروا فشبه الله تعالى بالذين كفروا فإذا فصل الكلام من الصلة فقال وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ووقف على ذلك وقطع الصلة كان صادقا وكان فصل ما قد فصل الله عز وجل.
قال عبد العزيز: فأقبل علي المأمون فقال: أحسنت أحسنت يا عبد العزيز وقد أبلغت فلا تحتاج إلى زيادة، ثم أقبل على بشر فقال: يا بشر هل عندك شيء تحتاج تسأل عنه عبد العزيز أو تحتج به عليه فقد ظهرت حجته ووضح قوله عندنا. قال بشر: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك هذا يريد نص التنزيل بكل شيء يتكلم به أو يلفظ به وليس كل ما يتكلم به الناس ويحتجون به يجدونه في نص التنزيل وإنما يجدونه في التأويل وهذا لا يقبل التأويل ويبطل التفسير حتى كأنه كان يشاهد التنزيل وهذا ما لا أسوغه أنا للمناظرين ولا أطيقه للمتكلمين إذ كان الناس لا يجدون علم ما يختلفون فيه ويتنازعون من أمر دينهم في كتاب الله عز وجل بنص التنزيل ولو كان هذا كما يقول عبد العزيز لبطل التفسير كله وبقي الناس في حيرة من أمر دينهم والناس جميعا يوافقوني على قولي ويخالفون عبد العزيز.
قال عبد العزيز: فقلت يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك كل ما يتكلم به الناس من علم دينهم وما يختلفون فيه ويتنازعون فيه فهو موجود في القرآن وفي غيره من كتبه لقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} وقوله: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ} فليس من شيء يحتاج إليه يا أمير المؤمنين إلا وهو موجود فيالقرآن عقله من عقله وجهله من جهله.
قال عبد العزيز: فجثى محمد بن الجهم على ركبتيه وقال يا عبد العزيز زعمت أن كل شيء يتكلم به الناس ويحتاجون إلى معرفته موجود في كتاب الله بنص التنزيل بلا تأويل ولا تفسير فأوجدنا أن هذا الحصير مخلوق أو غير مخلوق في كتاب الله تعالى بنص التنزيل ووضع يده على حصير مرمي كان تحتنا مبسوطًا في الإيوان فقلت له: نعم على أن أوجدك ذلك. قال عبد العزيز فأقبلت عليه فقلت له: أخبرني عن هذا الحصير أليس هو من سعف النخل وجلود الأنعام؟ قال: بلى. قلت: فهل فيه شيء غير هذا؟ قال: لا. فقلت له: هل هاهنا شيء غير هذا؟ قال: لا. فقلت له بل هاهنا شيء صار به حصيرا يجلس عليه. قال وما هو؟ قلت: الإنسان الذي صنعه وألفه وأحكمه قال: نعم.
قال عبد العزيز: فقلت له قال الله عز وجل وقد ذكر الأنعام فقال: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ} وأما السعف فإن الله ذكره فقال: {أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ} وقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ} فقد كمل خلق الحصير بنص القرآن بلا تأويل ولا تفسير، فهل عندك مثل هذا في خلق القرآن تذكره وتحتج به وإلا فقد بطل ما تدعونه في خلقه وصح ولم يزل صحيحا أن القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق من كل جهة. قال فصاح المأمون: يا محمد بن الجهم مالك وللكلام خل بين الرجل وصاحبه حتى يكلمه وأقبل على بشر فقال: يا بشر هل عندك شيء تناظر به عبد العزيز قبل أن نصرفه ونقوم فقد طال المجلس وصليت الظهر. فقال بشر: يا أمير المؤمنين عندي أشياء كثيرة إلا أنه يقول بنص التنزيل وأنا أقول بالنظر والقياس فليدع مطالبتي بنص التنزيل ويناظرني بغيره فإن لم يدع قوله ويرجع عنه ويقول بقولي ويقر بخلق القرآن الساعة فدمي حلال.
فقال المأمون: لهذا مجلس تناظرون فيه. قال عبد العزيز فقلت: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك إن رأيت أن تأذن لي فأناظره كما سأل على جهة النظر والقياس وأدع مطالبته بالقرآن ونص التنزيل ويكون أمير المؤمنين أطال الله بقاءه الشاهد علينا والمحتفظ لكلامنا فإن أقام بشر علي الحجة كما زعم وأقررت بشيء مما قال ورجعت عن شي مما قلت فدمي حلال كما قال بشر، إن ثبتت الحجة عليه من القياس والنظر كما ثبتت عليه من القرآن والسنة وشهد عليهبغيره فإن لم يدع قوله ويرجع عنه ويقول بقولي ويقر بخلق القرآن الساعة فدمي حلال.
فقال المأمون: لهذا مجلس تناظرون فيه. قال عبد العزيز فقلت: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك إن رأيت أن تأذن لي فأناظره كما سأل على جهة النظر والقياس وأدع مطالبته بالقرآن ونص التنزيل ويكون أمير المؤمنين أطال الله بقاءه الشاهد علينا والمحتفظ لكلامنا فإن أقام بشر علي الحجة كما زعم وأقررت بشيء مما قال ورجعت عن شي مما قلت/ فدمي حلال كما قال بشر، إن ثبتت الحجة عليه من القياس والنظر كما ثبتت عليه من القرآن والسنة وشهد عليه أمير المؤمنين بذلك فقد حل دمه بما شرط على نفسه.
قال عبد العزيز: فقال المأمون أنا الشاهد عليكما والحاكم بينكما فأوجزا واقتصرا ولا تطيلا فيخرج وقت الصلاة. قال عبد العزيز لبشر: أتسألني أم أسألك؟ فقال: سل أنت فطمع في هو وجميع أصحابه وتوهموا أني إذا خرجت عن التنزيل لم أحسن أن أتكلم بشيء غيره. قال عبد العزيز فقلت لشر: تقول إن كلام الله مخلوق. فقال: إن القرآن مخلوق، قال عبد العزيز فقلت له يلزمك واحدة من ثلاث لابد أن تقول أن الله عز وجل خلق القرآن وهو عندي أنا كلامه في نفسه، أو خلقه في غيره، أو خلقه قائما بذاته ونفسه فقل ما عندك.
قال بشر: أقول إنه مخلوق وإنه خلقه كما خلق الأشياء كلها. قال عبد العزيز فقلت: يا أمير المؤمنين تركنا القرآن والسنن والأخبار عند هربه منها وناظرناه بالقياس والكلام لما ادعاه وذكر أنه يقيم الحجة علي به وإني أقر معه بخلق القرآن، فقد رجع بشر إلى الحيدة عن الجواب وانقطع الكلام فإن كان يريد مناظرتي على أنه يجيبني عما أسأله عنه وإلا فأمير المؤمنين أعلا عينا في ما يراه في صرفي فإنما يريد بشر أن يقع معه من لا يفهم فيحيد عن دينه ويحتج عليه بما لا يعقله فتظهر حجته عليه فيبيح بذلك دمه.
قال فأقبل عليه المأمون فقال: أجب عبد العزيز عما سألك فقد ترك قوله ومذهبه وناظرك على مذهبك وما ادعيت أنك تحسنه وتقيم الحجة به عليه.
فقال بشر: قد أجبته ولَكِنه يتعنت. فقال له المأمون: يأبى عليك عبد العزيز إلا أن تقول واحدة من ثلاث.
قال: هذا بشر من مطالبته بالتنزيل ما عندي غير ما أجبت به.
قال عبد العزيز: فأقبل علي المأمون فقال يا عبد العزيز تكلم أنت في شرح هذه المسألة وبيانها ودع بشرا فقد انقطع عن الجواب من كل جهة.
فقلت يا أمير المؤمنين سألته عن كلام الله عز وجل أمخلوق هو قال: نعم. فقلت له ما صح يلزمك في هذا القول وهو واحدة من ثلاث لابد منها أن تقول إن الله خلق كلامه في نفسه، أو خلقه في غيره، أو خلقه قائما بذاته. فإن قال إن الله خلق كلامه في نفسه فهذا محال لا يجد السبيل إلى القول به من قياس ولا نظر معقول لأن الله عز وجل لا يكون مكانا للحوادث ولا يكون فيه شيء مخلوق ولا يكون ناقصًا فيزيد فيه شيء مخلوق، ولا يكون ناقصا فيزيد فيه شيء إذا خلقه تعالى الله عن ذلك وجل وتعاظم.
وإن قال: خلقه في غيره فيلزمه في النظر والقياس أن كل كلام خلقه الله في غيره هو كلام الله لا يقدر أن يفرق بينهما فيجعل الشعر كلاما لله تعالى ويجعل قول الكفر والفحص وكل قول ذمه الله وذم قائله كلاما لله عز وجل وهذا محال لا يجد السبيل إليه ولا إلى القول به لظهور الشناعة والفضيحة على قائله تعالى الله عنه ذلك علوا كبيرًا.
وإن قال: خلقه قائما بنفسه وذاته وهذا هو المحال الباطل الذي لا يجد إلى القول به سبيلا في قياس ولا نظر ولا معقول لأنه لا يكون الكلام إلا من متكلم كما لا تكون الإرادة إلا من مريد ولا العلم إلا من عالم ولا القدرة إلا من قادر ولا رئي ولا يرى كلام قط قائم نفسه يتكلم بذاته وهذا مالا يعقل ولا يعرف ولا يثبت في نظر ولا قياس ولا غير ذلك فلما استحال من هذه الجهات أن يكون مخلوقا ثبت أنه صفة لله عز وجل وصفات الله عز وجل كلها غير مخلوقة فبطل قول بشر يا أمير المؤمنين من جهة النظر كما بطل من جهة القرآن والتنزيل.
فقال المأمون: أحسنت يا عبد العزيز فقال بشر: تسأل عن غير هذه المسألة فلعله يخرج بيننا شيء يسمع فقلت نعم أنا أدع هذه المسألة وأسأل عن غيرها. فقال: سل يا عبد العزيز.
قال عبد العزيز: فقلت لبشر: تقول إن الله كان ولا شيء، وكان ولما يفعل شيئا ولما يخلق شيئا. قال: بلى. فقلت له: بأي شيء حدثت الأشياء بعد إذ لم تكن شيئا أهي أحدثت أنفسها أم الله أحدثها؟ قال: الله أحدثها. فقلت له: فبأي شي أحدثها؟ قال: أحدثها بقدرته التي لم تزل. قلت له: صدقت أحدثها بقدرته أفليس تقول إنه لم يزل قادرا؟ قال: بلى. قلت له: فتقول إنه لم يزل يفعل؟ قال: لا أقول هذا. قلت له: فلابد من أن يلزمك أن تقول إنه خلق بالفعل الذي كان عن القدرة وليس الفعل لأن القدرة صفة الله ولا يقال لصفة هي الله ولا هي غير الله.